07 - 05 - 2025

صباحيات | عن الصراع ومستقبل التعايش مرة أخرى

صباحيات | عن الصراع ومستقبل التعايش مرة أخرى

كنت قد بدأت في الكتابة عن موضوع بؤس الأيديولوجيا وأيديولوجيات البؤس، وقطعت شوطا لا بأس به في المقال، وكنت اعتزم استكمال المقال ونشره اليوم لكن موضوع التعايش اليهودي العربي، الذي بدأت الكتابة فيه بالأمس أكثر إلحاحاً، رغم كونه أكثر مراوغة في الوقت ذاته، بل قد يرى كثير من القراء أنه موضوع في غير وقته في ظل المجزرة المتواصلة يومياً التي يتعرض لها الفلسطينيون في قطاع غزة وفي الضفة الغربية وفي لبنان، وفي ظل تعاظم نفوذ الأكثر تطرفا داخل الحكومة الإسرائيلية التي تصنف بأنها الأكثر الحكومات تطرفا ويمينية في تاريخ الدولة القصير نسبياً. أحد الأسباب التي دعتني لمواصلة الكتابة في الموضوع هو أن له صلة وثيقة بموضوع الأيديولوجيا، ذلك أن هذا الصراع الممتد لأكثر من قرن بين المجتمع الفلسطيني والمهاجرين اليهود، والذي توسع مع قرار التقسيم في عام 1947، وإعلان قيام دولة إسرائيل في عام 1948، صراع مشحون بسرديات هي أقرب إلى الأساطير منها إلى الحقائق، وهو أيضا صراع محكوم برؤى أيديولوجيا إلى حد كبير أضفت عليه جوانب أخرى لخصها باحثون في الجوانب النفسية في الصراع والتي أطلق عليها الباحث الأمريكي هارولد ساندرز اسم "الجدران الأخرى" للصراع مع إسرائيل في بعده الفلسطيني وكذلك في بعده العربي. ولا تزال هناك بقية للحوار الذي أشرت إليه أمس بين الشاب الفلسطيني والشاب اليهودي.

النتيجة التي خلصت إليها في مقال الأمس من قراءة الحوار، وترى هذه الخلاصة، التي تشكل نقطة انطلاق ضرورية ومنطقية لمواصلة مثل هذا الجهد، استحالة تمكن أي طرف من طرفي الصراع الرئيسيين، اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين، من القضاء على الطرف الآخر، بالرغم من النتائج التي قد تترتب على الجولة الراهنة من المواجهات العسكرية. قد لا تروق هذه الحقيقة لكثير من الحالمين بالتخلص من الطرف الآخر، لدى الجانبين، وقد تتصادم مع ما هو معلن ومكتوب من العقائد القتالية للأطراف المنخرطة في هذا الصراع بما في ذلك العقائد القتالية لأطراف أبرمت اتفاقيات للسلام مع إسرائيل. وتراكمت الجوانب النفسية للصراع لتشكل حواجز يصعب اجتيازها وجدراناً من الصعب تفكيكها. غير أن المواجهة الأخيرة والمرشحة للتوسع بتصعيد للضربات العسكرية المتبادلة، والمحكومة بحسابات دقيقة، بين إسرائيل وإيران، على نحو قد يسقط هذه الحسابات ويدفع المنطقة إلى حرب أكثر عنفاً وأشد ضراوة، تضع شعوبها أمام مفترق طرق للاختيار بين المضي قدماً في طريق الحرب المدمرة أو التوصل إلى هدنة تسمح بالتفكير في بدائل أخرى للمستقبل وبتسويات تاريخية.

حل الدولتين

العنوان الأول في البدائل الأخرى لحل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، والذي قبلته القيادة السياسية في إسرائيل طوعاً في لحظة استثنائية، هو "حل الدولتين". ولا يزال هذا الحل هو الحل المقبول دولياً وإقليمياً، والذي أعلنت حماس استعدادها لقبوله كحل مرحلي في سياق هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل. لكن ثمة توافق عام تشكل في إسرائيل الآن على رفض هذا الحل والإصرار على حل الدولة الواحدة بين نهر الأردن والبحر المتوسط، أو من منظور خريطة إسرائيل الكبرى التي ترسمها شارة وضعت على كتف جنودها، تعبيرا عن صعود التيار اليميني الصهيوني الذي يتبنى هذه الرؤية، بغض النظر عن معقوليتها وإمكانية تحقيقها في ظل التوازنات الدولية والإقليمية الراهنة وفي ظل موازين القوة الشاملة بين أطراف الصراع، وفي ضوء الصعوبات التي تواجهها إسرائيل لفرض سيطرتها حالياً وما قد تنطوي عليه تعقيدات السيطرة على مساحة أوسع من الأرض وعلى أعداد من البشر أكبر وأكثر تنوعاً. 

ثمة تغيرات تعزز اختيار حل الدولة الإسرائيلية الواحدة، منها استعداد الإدارة الأمريكية لقبول مثل هذا الحل بشكل واضح وصريح على نحو ما أعلنه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب والذي يكافح من أجل العودة إلى البيت الأبيض، أو بشكل تدريجي من خلال قبول الإدارات الأمريكية المتعاقبة ضم المستوطنات اليهودية الرئيسية المحيطة بالقدس والتي صادرت 35 بالمئة من مساحة الضفة الغربية المحتلة، وتغير الموقف الأمريكي من مسألة القدس، وإن استمر الانقسام بخصوص الاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل. التغير الآخر يتمثل في اتفاقيات التطبيع الإبراهيمية والتي تخلت أطراف عربية بموجبها عن ربط تطبيع العلاقات مع إسرائيل بإحراز تقدم في عملية السلام على أساس حل الدولتين والذي أكدته خطة السلام العربية لعام 2002، وهو التغير الذي يشكل تهديداً حقيقياً بتصفية القضية الفلسطينية والمضي قدماً في حل الدولة الإسرائيلية الواحدة.

بقيت مسألة موقف السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية وفي قطاع غزة وفي القدس الشرقية من إعلان إسرائيل ضم الأراضي المحتلة وفرض قانون يهودية الدولة الإسرائيلي عليها، وكذلك موقف المجتمع الدولي الذي لا يزال مصرا على عدم تغيير وضع الأراضي المحتلة بالقوة، رغم عجزه عن أن يفرض على إسرائيل التقيد بالتزاماتها الدولية كقوة احتلال والتصدي لانتهاكاتها المتواصلة لقرارات الأمم المتحدة وللقانون الدولي. بالنسبة للمشكلة الأولى، كان من الممكن الاستفادة من تجربة فرض الجنسية الإسرائيلية على فلسطيني حدود 1948 في فرضها على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة وفي القدس الشرقية، لكن تحول موقف اليمين الصهيوني المتطرف من المجتمع الفلسطيني والعربي في حدود 1948، يطرح إشكالية بخصوص مستقبل مثل هذا الحل، إذ أن اليمين الصهيوني لا يقبل حتى فكرة التعايش المفروض على عرب 1948، ولا يزال أسير عقلية "حارة اليهود" (الجيتو) التي تشكلت على مدى قرون، ولا يزال يؤمن، وباتت تؤمن معه قطاعات أوسع من الجمهور في إسرائيل، بفكرة "أرض الميعاد". ولا علاقة لهذه الفكرة من قريب أو بعيد بالعقيدة اليهودية، إذ أشار إيلان بابيه، أستاذ دراسات الشرق الأوسط المقيم في بريطانيا والرافض للصهيونية إلى أن معظم اليهود الملحدين في إسرائيل الذين ينكرون وجود الله "يؤمنون في الوقت نفسه أنه وعدهم بأرض الميعاد"، بل يرى كثير من المتدينين اليهود أن قيام إسرائيل قبل قدوم المخلص الذي سيقود الشعب اليهودي بوصفه شعب الله المختار لإقامة الدولة وإعادة بناء الهيكل معصية للرب، رغم المواءمات التي أجرتها قطاعات من الطوائف المختلفة من المتدينين اليهود مع الصهيونية.

ليس واضحاً في ظل هذا الوضع كيف يمكن تحقيق صيغة حل الدولتين، ومن المؤكد أن فرصة مثل هذا الحل ستكون غير واردة في حالة فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية الشهر المقبل. وبالتأكيد أن فرصة حل الدولة الواحدة من المنظور الفلسطيني، والتي طرحت لأول مرة في عام 1974، تحت شعار الدولة الديمقراطية الواحدة للشعبين، أو تصور الدولة الواحدة لمواطنيها التي دعا إليها المفكر القومي العربي عزمي بشارة، الذي كان عضوا في الكنيست، كمواطن من فلسطيني 1948 والذي أعلن نيته الترشح لرئاسة الوزراء، أثناء تجربة الانتخاب المباشر لرئيس الوزراء التي طبقت مرة واحدة استفاد منها أرئيل شارون لتحرير رئيس الوزراء من الرضوخ لمساومات الأحزاب الصغيرة، والتي تم التراجع عنها سريعاً، والعودة للعمل بالنظام القديم، وهو النظام الذي أوقع رئيس الوزراء الحالي تحت سيطرة الشركاء الأصغر في التحالف. وهناك فكرة الدولة الواحدة التي تطرحها حماس، ولكن من الواضح أن هذه الفكرة تفتقر لأي مقومات لافتقارها إلى التوافق الفلسطيني العام أساساً. 

لا نعرف كيف يمكن تحقق التعايش بين اليهود والفلسطينيين في إطار الدولة الواحدة في ظل التحولات المشار إليها وفي ظل المرارات التي أفرزتها المواجهة العسكرية الحالية، والأرجح أن فرض حل الدولة الإسرائيلية الواحدة في هذا السياق سيقضي على أي إمكانية للتعايش وقد يضع إسرائيل رسمياً على طريق دولة الفصل العنصري، ومن ثم يضعها على طريق مماثل للطريق الذي مضت فيه دولة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا لينتهي بها الحال لحل مماثل للحل في جنوب أفريقيا لكن بشرط قبول إسرائيل الوجود ضمن حدود فلسطين التاريخية وتخليها عن النزعة التوسعية والعدوانية، سواء بالتوسع الجغرافي أو جعلها القائد الاستراتيجي للمنطقة، عسكريا واقتصادياً، وبعد تنظيم علاقاتها مع القوى العالمية الكبرى التي لها مصالح في المنطقة. وفي كل الأحوال من المستبعد أن تروق مثل هذه الترتيبات للغالبية الساحقة من شعوب المنطقة رغم صبرها الطويل على أشكال القمع على يد أنظمة حكم وطنية، وقد يفتح هذا التطور الباب أمام ظهور حركة تحرر جديدة على النحو الذي توقعه إيلان بابيه.

هل من دور للشعوب؟

نعود للحوار بين الشابين الفلسطيني والإسرائيلي ونتوقف عند مقاطع مهمة تشير إلى مثل هذا المسار البديل المحتمل، والمرهون بوعي جديد لدى الشعوب يفرض قيوداً على سلوك الحكومات تجاه المدنيين، على الجانبين. إن اختزال مستويات العنف والقهر الذي يتعرض له المدنيون في المنطقة في سياق الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني أو الإسرائيلي-العربي وحده، أحد الإشكاليات الكبرى التي تعوق الخروج من الوضع الراهن. صحيح أن إسرائيل ومشروعها في المنطقة أحد الأسباب الجذرية المغذية للعنف السياسي، إلا أنه ليس السبب الوحيد، إذا استثنينا نظريات المؤامرة. إن صيغة الدولة بعد الاستعمارية في المنطقة، والتي تعد إسرائيل، إلى حد كبير، أحد نتائجها أحد الأسباب الرئيسية لهذا الوضع. وباءت بالفشل كل محاولات إدخال تعديلات على هذه الصيغة تمس أسلوب الحكم مع الإبقاء على الحدود السياسية القائمة للدولة وما توجده من أزمات بخصوص مسالة الهوية، والصراع على شكل الحكم ومضمونه والمحكوم بانقسامات أيديولوجية واضحة فضلا عن أزمة الحداثة وفشل مشروعات التحديث. في ظل هذا الوضع، قد يكون الأمل معقوداً على الشعوب التي تقف الآن أمام منعطف تاريخي، الأمر الذي يستدعي إجراء مراجعات جذرية للسرديات الحاكمة للصراع لدى الجانبين، والانطلاق من تحليل التعقيدات التي ينطوي عليها واقع الصراع ومستقبله.

على الرغم من اتفاق قطاع كبير من المثقفين اليهود على أن ما تفعله إسرائيل من شأنه أن يدمر وجودها، وأن من مصلحة اليهود مقاومة اليمين المتطرف وأسلوبه في التفكير، وهو الأمر الذي كان محتدما قبل هجوم السابع من أكتوبر وهو هجوم ساعد نتنياهو ومعسكره على إعادة اصطفاف أغلب اليهود الإسرائيليين وراءهم في سياساتهم في الضفة الغربية وفي قطاع غزة وفي لبنان، والبناء على التحالف الأوسع المعادي لإيران، وحجب الأصوات الأخرى الرافضة لتلك السياسات إن وجدت. ويبدو أن نجاح الموقف الرافض لهذه السياسات في إسرائيل مرهون باستعداد قطاعات واسعة من الفلسطينيين بالإعلان عن قبولهم وترحيبهم بوجود اليهود الإسرائيليين في هذه الأرض، وهو ما يرفضه معظم الفلسطينيين إما لأنهم ينظرون إلى الإسرائيليين باعتبارهم نتاجاً للاستعمار البريطاني، أو لرفضهم الادعاءات الصهيونية واليهودية. إن زعزعة شرعية السلطة الفلسطينية والتيار الرئيسي فيها، أساساً بسبب السياسات الإسرائيلية التي تؤدي حتماً إلى تعزيز شرعية حماس أحد المعوقات الرئيسية لمثل هذا الاعتراف. بل إن هذه السياسات تجعل من الصعب على التيار العام الفلسطيني والعربي إدانة ما قامت به حماس في السابع من أكتوبر بوصفه مقاومة للاحتلال، وهذه نقطة لا يستطيع الإسرائيليون، بل ولا يستطيع كثير من أنصار التعايش والسلام خارج إسرائيل، فهمها. والحقيقة أن الخطابات الداعمة لحماس في العالم العربي والإسلامي على اختلاف مرجعياتها تزيد الأمر تعقيداً.

قد يكون الانطلاق من التعامل مع الواقع السياسي، والابتعاد عن السرديات التاريخية، بخصوص من له الحق في التواجد على هذه الأرض أحد المداخل المهمة للسعي لإيجاد صيغة للتعايش تؤسس لحل بديل لحالة الصراع المستمر والذي ينبئ عن وصوله إلى مستويات من العنف تتجاوز أي تصور أو خيال. الحقيقة المؤكدة التي يدركها كثير من الناس في فلسطين وخارجها أن هناك شعبين في هذه الأرض، وأن لكل شعب حق متساوي في الحياة باستقلالية وتقرير مصيره، ولا يمكن لمثل هذا الحل أن يتحقق بدون ترتيب ما يحقق حل الدولتين كمرحلة انتقالية ترسم مساراً جديداً للعلاقات. وما طرحته مؤسسة "دولتان، وطن واحد"، قد يكون مقدمة للخروج "من فخ السؤال التاريخي" الذي لا يطالب أي من الطرفين بالتخلي عن روايته التاريخية، على نحو ما يرى الشاب الفلسطيني، والذي بموجبه يمكن للفلسطيني أن يرى يافا كجزء من وطنه، لكنها عملياً جزء من دولة أخرى، وأن يرى اليهودي الخليل كجزء من أرض إسرائيل التوراتية، لكنها عملياً جزء من الدولة الفلسطينية.

ثمة نقطة أخرى يكشف عنها الحوار من شأنها أن توفر حلاً يضمن لإسرائيل عدم الانزلاق في مسار نظام الفصل العنصري وما قد يترتب عليه من عواقب طرحها المحاور الإسرائيلي تتمثل في إمكانية الاتفاق بسهولة على المساواة بين كل من يعيش بين نهر الأردن والبحر المتوسط، في وضع لا يتمتع فيه أي شعب بالتفوق على الآخر، أو امتلاك أي حقوق إضافية، لكن يعوق هذه الإمكانية وجود طبقة سياسية إسرائيلية، وفلسطينية تفكر في الأمر بطريقة مختلفة، والرهان على أن الحرب الراهنة قد تساعد على تعديل طريقة التفكير هذه، عندما يقتنع اليهود إلى أن المشروع التوسعي الإسرائيلي وصل إلى طريق مسدود، وأنه لا يمكن تنفيذه بالقوة، وأن الفلسطينيين حاضرون ولهم حقوق، فإن هذا سيقودنا إلى مسار آخر. هذا ما يراه المحاور الفلسطيني الذي يراهن، مثلما يراهن التفكير الاستراتيجي الفلسطيني، وربما العربي والإسلامي على تغير موازين القوى، على الأقل في غير صالح إسرائيل، لكن الأمر قد يتطلب مراجعة للتفكير الاستراتيجي الفلسطيني والعربي لمعرفة ما هو ممكن وما هو ممكن في ظل موازين القوة الراهنة والتزحزح قليلاً عن منطق أن ما يدرك كله لا يترك كله. لقد حقق الفلسطينيون مكاسب كبيرة بجني الثمار الممكنة لكفاحهم الوطني عندما قبلوا فكرة المفكر المصري الراحل الأستاذ أحمد بهاء الدين، بإقامة دولة فلسطينية ولو على شبر من أرض فلسطين. وعلينا أن نتذكر أن الحركة الصهيونية ما كان لها أن تحقق شيئاً إذا ما فكرت بالمنطق الفلسطيني والعربي الراهن.

هنا، يبرز الدور الذي يمكن للشعوب أن تضطلع به في الصراع، واستدعاء الشعوب وإشراكها من شأنها يعلى من منطق المصالح المباشرة والآنية التي يمكن تحقيقها وأن يكبح العقائديين المتطرفين الموجهين بتصوراتهم المفارقة للواقع ولمصالح البشر.
------------------------------------
بقلم: أشرف راضي

مقالات اخرى للكاتب

رسائل انتخابات الصحفيين وأولويات مجلس النقابة في الفترة القادمة